احتشدت المغريات على الناس فأنست كثيرين منهم مهمتهم في الحياة ومصيرهم بعدها فأقبلوا يعبون من شهواتها بغير حدود وربما عب بعضهم بغير قيود؛ تنافس خطير في الجمع من حل ومن غير حل من أجل استمتاع أكبر، وتسابق في التعمير والتوسع والزخرفة والتأثيث، والمصيبة إن كان صاحب هذا ممن غرقوا في هذا الصراع وعكفوا عليه ناسين كونهم عباد الله ينتظرهم الموت وما يأتي بعد الموت، آمالهم عراض، وأهوائهم جانحة، إلى نفسي أولا وإلى كل حريص على هدي محمد بن عبد الله أسوق هذه الصور التي أخرجها الإمام البخاري في صحيحه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطاً في الوسط خارجا منه، وخط خطوطاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أوقد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذه نهشه هذا".

وقد ورد في رواية أنس رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطا فقال: "هذا الأمل وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخطب الأقرب"، وقال علي رضي الله عنه: ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.

مسكين هذا الإنسان الضعيف تغزوه الأعراض غزوا فيه إلحاح: عدوى، أو سرطان، أو حريق، أو غرق، أو سقوط، أو اصطدام، أو لدغة، أو تسمم بطعام، أو طلقة، فإذا نجا من كل ذلك، كان له في الهرم، وضغط الدم، وارتفاع نسبة السكر، تأديب أي تأديب، فإن أطال النفس: اقتص منه الموت، قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم .

تعددت الأسباب والموت واحد يحاصر الأمل الشارد الذي يتوهم الإفلات حصارا شديدا. إن العاقل لو نظر ببصيرته لعرف أن أمله إنما يلغه محيط أسود ما لم يتبع في حركته مخرجا تدل عليه التقوى. فإن العيش الرغيد لابد من أن يتنغص، والظل الظليل، يتقلص وإن المطامع مهما كبرت فليس صاحبها لما قدّر له بمجاوز، فالأنفاس تعد، ورحاله تشد، وعاريته ترد، والتراب من بعد ينتظر الخد وعلى أثر من سلف يمشي من خلف، وما ثم إلا أمل مكذوب وأجل مكتوب.

إن الذي يعيش مترقبا النهاية يعيش معدا لها، فإن كان معدا لها، عاش راضيا بها، فإن عاش راضيا بها، كان عمره في حاضر مستمر كأنه في ساعة واحدة يشهد أولها ويحس آخرها. وبمثل هذا النظر والترقب الذي أكسبه الأنبياء عليهم السلام من قاتل معهم من الربيين: صفت النفوس، وثبتت بركيزة من الطمأنينة سكنت معها وهدأت، فرأت حين زال الاضطراب الحقيقة الترابية للشهوات الدنيوية فزال عنها التطلع لمزيد.

بكى عبد الرحمن بن عوف وعاف الطعام لما تذكر مصعب بن عمير رضي الله عنه كما روى الإمام البخاري عنه: ((قتل مصعب بن عمير وهو خير مني: كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، ثم بسط لنا من الدنيا مابسط، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا)).

ولم يكن بكاء عبد الرحمن خزنا أن لم ير أخاه مصعبا مترفا، إنما هو بكاء الخشية من بعض مباح أن يكون حسنة معجلة تمنعه الآجل، كما أفصح، ودموع حذر تخرجها روعة تجرد لجهاد يرى ذهاب أبطاله تباعا فيخلف من بعدهم خلف تكثر في يده الأموال، من نخاف أن يتنافسوها فيتوقف نبض فتوح الهداة.

يشبه بكاء عبد الرحمن عبرة ظل يغص بها حلق أبي الدرداء رضي الله عنه مرارا وهو يقول: ((أبكاني فراق الأحبة: محمد وحزبه))، يعبر عن خوفه من جديد طرأ على حياة الجيل الثاني، لقد صغر أبو الدرداء درج مسجد دمشق فقال: ((يا أهل دمشق: ألا تسمعون من أخ لكم ناصح، إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيراً، ويبنون شديداً، ويأملون بعيدا، فأصبح جمعهم بوراً، وبنيانهم قبورا، وأملهم غرورا)).

وبقي في أهل دمشق سنين يخفف أثر هجمة المال، ثم أورث هذه الفكرة أهله، فكان الرجل منهم يأتي أم الدرداء يستنصحها فيقول: ((إني لأجد في قلبي داء لا أجد له دواء، أجد قسوة شديدة وأملا بعيدا))، فتقول رضي الله عنها: ((اطلع في القبور، وأشهد الموتى)).

ولقد أرجف عمر بن عبد العزيز رحمه الله قلوب جيله بذكر الموت بعد أن أخذت منه الدنيا مأخذا، فكم وقف عمر مثل موقف أبي الدرداء على درج مسجد دمشق ليجد الوعظ القديم ويقرر فيقول: ((إن الأمان غدا لمن حذر الله وخافه، وباع قليلا بكثير، ونافذا بباق)).

حتى إذا أيقنوا صواب الصفقة: راح يريهم من واقعهم بعين التأمل ما لا تراه عين الغفلة فيقول لهم ((ألا ترون في أسلاب الهالكين، وسيخلفها من بعدهم الباقون، وكذلك حتى يردوا إلى خير الوارثين، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غاديا إلى الله رائحا، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، وطوى عمله، ثم تضعونه في صدع من الأرض في بطن لحد، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، ووجه للحساب، غنيا عما ترك، فقيرا إلى ما قدم.

ولربما أجلس أحدهم أمامه وعلمه كما صنع بعنبسة بن سعيد إذ قال له: يا عنبسة: أكثر من ذكر الموت، فإنك لا تكون في ضيق من أمرك ومعيشتك فتذكر الموت إلا اتسع ذلك عليك، ولا تكون في سرور من أمرك وغبطة فتذكر الموت إلا ضيق ذلك عليك)).

قال التابعي محمد بن كعب القرظي رحمه الله: ((لما استخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعث إلي وأنا بالمدينة فقدمت عليه، فلما دخلت جعلت أنظر إليه نظرا لا أصرف بصري عنه متعجبا، فقال: يا ابن كعب إنك لتنظر إلي نظرا ما كنت تنظره، قلت: متعجبا، قال: ما أعجبك، قلت: يا أمير المؤمنين:أعجبني ما حال من لونك، ونحل من جسمك، ونفى من شعرك.

فقال: كيف لو رأيتني بعد ثلاثة، وقد دليت في حفرتي، وسالت حدقتي على وجنتي، وسال منخري صديدا ودودا)).

ألا ما أعجم نتاج غرسك يا رسول الله وما أعمق أثر توجيهاتك وما أحوجنا إلى مراجعتها والتزامها فقد أخذت منا الدنيا مآخذ وغلبتنا نفوسنا وشهواتنا فاستجبنا لكل ما تريد وصار بعضنا عبدا لها، فاللهم إنا نسألك هداية تمن بها علينا تعيدنا إلى سلك رسولك وصحبه وتابعيهم.

واعملوا رحمكم الله أن الإنسان قد انطلق في رحلته في هذه الحياة منذ لحظة الولادة إلى لحظات الموت، وفي كل دقيقة يبتعد عن نقطة البداية، ويقترب من هدفه وغايته، وهؤلاء هم أبناء الدنيا وصنف آخر جعلوا الآخرة هدفهم وغايتهم، وتعاملوا مع الدنيا كوسيلة للآخرة، فأخذوا ما يعينهم على الفوز بالآخرة، وتركوا ما يعيقهم عن ذلك.

روى الإمام البخاري عن عمر رضي الله عنه حديثا طويلا جاء فيه: ((ثم رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاث، فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، وكان متكئا فقال: أو في شك أنت يا ابن الخطاب، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت: يا رسول الله استغفر لي)).

ودخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته فقال: يا أبا ذر أين متاعكم، فقال: إن لنا بيتا نتوجه إليه، فقال: إنه لابد من متاع ما دمت ها هنا: فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا ها هنا.

وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: إن الدنيا ليست بدار قراركم كتب الله عليها الفناء وكتب على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من قيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.


منقول

فاللهم ارحم في الدنيا غربتنا وارحم في القبور وحشتنا وارحم موقفنا غدا بين يديك، واجعلنا من عبادك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.